فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لذلك جاء الحق سبحانه وتعالى بالتشريعات التي تقينا وتحمينا من شرّ الأحداث، أي أنه يمنع عن الإنسان الضرر قبل أن يوجد؛ وبذلك تتحقق رحمته سبحانه لطائفة من البشر عن أن تعضّهم الأحداث، بينما نجد للقانون الوضعي ضحايا، فيرق قلب المشرعين بعد رؤية هؤلاء الضحايا ليضعوا التعديل لأحكام وضعوها من قبل، ففي القانون الوضعي نجد بشرًا يقع عليهم عبء الظلم لأنه قانون لا يستوعب صيانة الإنسان صيانة شاملة، وبعد حين من الزمن يتدخل المشرعون لتعديل قوانينهم، وإلى أن يتم التقنين يقع البشر في دائرة الغبن وعدم الحصول على العدل. أما الخالق سبحانه فقد برأ وخلق صنعته وهو أعلم بها؛ لذلك لم يغبن أحدًا على حساب أحد؛ فوضع تشريعاته السماوية، ولذلك يقول الحق: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].
شفاء إذا وجد الداء من غفلة تطرأ علينا، ورحمة وذلك حتى لا يأتي الداء. الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا}. إنه سبحانه يضع من الأحداث ما يفضحهم فيتصرفون بما يكشف نفاقهم، وبعد ذلك يخطرهم الرسول ويعرف عنهم المجتمع أنهم منافقون.
وهم {يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} أي يُعرضون عنك يا رسول الله لأنهم منافقون، وكل منافق عنده قضيتان: قضية لسانية وقضية قلبية؛ فهو باللسان يعلن إيمانه بالله وبرسول الله، وفي القلب تتعارض ملكاته عكس المؤمن أو الكافر، فالمؤمن ملكاته متساندة؛ لأن قلبه انعقد على الإيمان ويقود انسجام الملكات إلى الهدى، والكافر أيضًا ملكاته متساندة؛ لأنه قال: إنه لم يؤمن ويقوده انسجام ملكاته إلى الضلال، لكن المنافق يبعثر ملكاته!! ملكة هنا وملكة هناك، ولذلك سيكونون في الدرك الأسفل من النار، الكافر منطقي مع نفسه، فلم يعلن الإيمان؛ لأن قلبه لم يقنع، وكان من الممكن أن يقول كلمة الإيمان لكن لسانه لا يرضي أن ينطق عكس ما في القلب، وعداوته للإسلام واضحة. أما المنافق فيقول: يا لساني.. أعلن كلمة الإيمان ظاهرًا؛ كي أنفذ من هذا الإعلان إلى أغراضي وأن تطبّق عليّ أحكام الإسلام فانتفع بأحكام الإسلام، وأنا من صميم نفسي إن وجدت فرصة ضد الإسلام فسأنتهزها. ولذلك يقول الحق: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ...}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {رَأَيْتَ} فيها وجهان:
أحدهما: [أنها من رُؤيَة البَصَرِ، أي: مُجَاهَرَة وتصْرِيحًا].
[والثاني:] أنَّها من رُؤيَة القَلْب، أي عَلِمْتَ؛ فـ {يَصُدُّونَ} في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ على القَوْلِ الأوَّلِ، وفي مَحَلِّ المَفْعُول الثَّانِي على الثَّانِي.
وقوله: {صُدُودًا} فيه وجهان:
أحدهما: أنه اسْم مَصْدَرٍ، والمصْدَر إنما هو الصَّدُّ، وهذا اخْتِيَار ابن عطيَّة، وعزَاه مكِّي للخَلِيل بن أحمد.
والثَّاني: أنه مَصْدر بِنَفْسِه؛ يقال: صَدَّ صَدَّا وصُدُودًا، وقال بَعْضُهم: الصُّدُود مَصْدَرُ صَدَّ اللازم، والصَّدُّ مصدرُ صَدَّ المُتَعَدَّي، نحو: {فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل} [النمل: 24] والفعْل هنا مُتَعَد بالحَرْفِ لا بِنَفْسِه، فلذلك جاءَ مصدَرُه على فُعُول؛ لأن فُعُولا غالبًا اللازِم، وهذا فيه نَظَر؛ إذا لِقَائِل أن يقُول: هو هُنا مُتَعَدٍّ، غاية ما فيه أنه حَذَفَ المَفْعُول، أي: يَصُدُّون غيرَهُم، أو المُتَحاكِمين عنك صُدُودًا، وأما فُعُول فجاء في المُتَعَدِّي، نحو: لَزِمَهُ لُزُومًا، وفَتَنَهُ فُتُونًا. اهـ.

.تفسير الآية رقم (62):

قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تسبب عن هذا تهديدهم، قال- مهولًا لوعيدهم بالإبهام والتعجيب منه بالاستفهام، معلمًا بأنهم سيندمون حين لا ينفعهم الندم، ولا يغني عنهم الاعتذار-: {فكيف} أي يكون حالهم {إذا أصابتهم مصيبة} أي عقوبة هائلة {بما قدمت أيديهم} مما ذكرنا ومن غيره.
ولما كان الذي ينبغي أن يكون تناقضهم بعيدًا لأن الكذب عند العرب كان شديدًا؛ قال: {ثم جاءوك} أي خاضعين بما لينت منهم تلك المصيبة حال كونهم {يحلفون بالله} أي الحاوي لصفات الكمال من الجلال والجمال غير مستحضرين لصفة من صفاته {إن} أي ما {أردنا} أي في جميع أحوالنا وبسائر أفعالنا {إلا إحسانًا وتوفيقًا} أي أن تكون الأمور على الوجه الأحسن والأوفق لما رأينا في ذلك مما خفي على غيرنا- وقد كذبوا في جميع ذلك. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن في اتصال هذه الآية بما قبلها وجهين:
الأول: أن قوله: {فَكَيْفَ إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} كلام وقع في البين، وما قبل هذه الآية متصل بما بعدها هكذا: وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ثم جاؤك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا، يعني أنهم في أول الأمر يصدون عنك أشد الصدود، ثم بعد ذلك يجيئونك ويحلفون بالله كذبا على أنهم ما أرادوا بذلك الصد إلا الإحسان والتوفيق، وعلى هذا التقدير يكون النظم متصلا، وتلك الآية وقعت في البين كالكلام الأجنبي، وهذا يسمى اعتراضا، وهو كقول الشاعر:
إن الثمانين وبلغتها ** قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

فقوله: وبلغتها، كلام أجنبي وقع في البين، إلا أن هذا الكلام الأجنبي شرطه أن يكون له من بعض الوجوه تعلق بذلك المقصود كما في هذا البيت، فإن قوله: بلغتها دعاء للمخاطب وتلطف في القول معه، والآية أيضا كذلك، لأن أول الآية وآخرها في شرح قبائح المنافقين وفضائحهم وأنواع كيدهم ومكرهم، فإن الآية أخبرت بأنه تعالى حكى عنهم في أول الآية أنهم يتحاكمون إلى الطاغوت مع أنهم أمروا بالكفر به، ويصدون عن الرسول مع أنهم أمروا بطاعته، فذكر بعد هذا ما يدل على شدة الأحوال عليهم بسبب هذه الأعمال السيئة في الدنيا والآخرة فقال: {فَكَيْفَ إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي فكيف حال تلك الشدة وحال تلك المصيبة، فهذا تقرير هذا القول، وهو قول الحسن البصري، واختيار الواحدي من المتأخرين.
الوجه الثاني: أنه كلام متصل بما قبله، وتقريره انه تعالى لما حكى عنهم في الآية المتقدمة أنهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويفرون من الرسول عليه الصلاة والسلام أشد الفرار دل ذلك على شدة نفرتهم من الحضور عند الرسول والقرب منه، فلما ذكر ذلك قال: {فَكَيْفَ إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} يعني إذا كانت نفرتهم من الحضور عند الرسول في أوقات السلامة هكذا، فكيف يكون حالهم في شدة الغم والحسرة إذا أتوا بجناية خافوا بسببها منك، ثم جاؤك شاؤا أم أبوا ويحلفون بالله على سبيل الكذب: أنا ما أردنا بتلك الجناية إلا الخير والمصلحة، والغرض من هذا الكلام بيان ان ما في قلبهم من النفرة عن الرسول لا غاية له، سواء غابوا أم حضروا، وسواء بعدوا أم قربوا، ثم إنه تعالى أكد هذا المعنى بقوله: {أُولَئِكَ الذين يَعْلَمُ الله مَا في قُلُوبِهِمْ} والمعنى أن من أراد المبالغة في شيء قال: هذا شيء لا يعلمه إلا الله، يعني أنه لكثرته وقوته لا يقدر أحد على معرفته إلا الله تعالى، ثم لما عرف الرسول عليه الصلاة والسلام شدة بغضهم ونهاية عداوتهم ونفرتهم أعلمه انه كيف يعاملهم فقال: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ في أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} وهذا الكلام على ما قررناه منتظم حسن الاتساق لا حاجة فيه إلى شيء من الحذف والإضمار، ومن طالع كتب التفسير علم ان المتقدمين والمتأخرين كيف اضطربوا فيه والله أعلم. اهـ.
قال الفخر:
ذكروا في تفسير قوله: {أصابتهم مُّصِيبَةٌ} وجوها:
الأول: أن المراد منه قتل عمر صاحبهم الذي أقر أنه لا يرضى بحكم الرسول عليه السلام، فهم جاؤا إلى النبي عليه الصلاة والسلام فطالبوا عمر بدمه وحلفوا انهم ما أرادوا بالذهاب إلى غير الرسول إلا المصلحة، وهذا اختيار الزجاج.
الثاني: قال أبو علي الجبائي: المراد من هذه المصيبة ما أمر الله تعالى الرسول عليه الصلاة والسلام من أنه لا يستصحبهم في الغزوات، وانه يخصهم بمزيد الاذلال والطرد عن حضرته وهو قوله تعالى: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين في قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ والمرجفون في المدينة لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلًا * مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 60 61] وقوله: {قُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا} [التوبة: 83] وبالجملة فأمثال هذه الآيات توجب لهم الذل العظيم، فكانت معدودة في مصائبهم، وانما يصيبهم ذلك لأجل نفاقهم، وعني بقوله: {ثُمَّ جاؤك} أي وقت المصيبة يحلفون ويعتذرون أنا ما أردنا بما كان منا من مداراة الكفار الا الصلاح، وكانوا في ذلك كاذبين لانهم أضمروا خلاف ما أظهروه، ولم يريدوا بذلك الإحسان الذي هو الصلاح.
الثالث: قال أبو مسلم الأصفهاني: انه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم رغبوا في حكم الطاغوت وكرهوا حكم الرسول، بشر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ستصيبهم مصائب تلجئهم إليه، والى أن يظهروا له الإيمان به والى أن يحلفوا بأن مرادهم الإحسان والتوفيق.
قال: ومن عادة العرب عند التبشير والإنذار أن يقولوا: كيف أنت إذا كان كذا وكذا، ومثاله قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] وقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران: 25] ثم أمره تعالى إذا كان منهم ذلك أن يعرض عنهم ويعظهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}.
تفريع على قوله: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول} [النساء: 61] الآية، لأنّ الصدود عن ذلك يوجب غضب الله عليهم، فيوشك أن يصيبهم الله بمصيبة من غير فعل أحد، مثل انكشاف حالهم للمؤمنين فيعرفوا بالكفر فيصبحوا مهدّدين، أو مصيبة من أمر الله رسوله والمؤمنين بأن يظهروا لهم العداوة وأن يقتلوهم لنفاقهم فيجيئوا يعتذرون بأنّهم ما أرادوا بالتحاكم إلى أهل الطاغوت إلاّ قصد الإحسان إليهم وتأليفهم إلى الإيمان والتوفيق بينهم وبين المؤمنين.
وهذا وعيد لهم لأنّ {إذا} للمستقبل، فالفعلان بعدها: وهما {أصابتهم} و{جاؤوك} مستقبلان، وهو مثل قوله: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينّك بهم ثمّ لا يجاورونك فيها إلاّ قليلًا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلًا}.
و{كَيْفَ} خبر مبتدأ محذوف معلوم من سياق الكلام: أي كيف حالهم حين تصيبهم مصيبة بسبب ما فعلوا فيجيئونك معتذرين.
والاستفهام مستعمل في التهويل، كما تقدّم القول فيه في قوله تعالى آنفًا: {فكيف إذا جئنا من كلّ أمة بشهيد}.
وتركيب كيف بك يقال إذا أريدت بشارة أو وعيد تعجيبًا أو تهويلًا.
فمن الأوّل قول النبي صلى الله عليه وسلم لسُراقة بن مالك: «كيْف بك إذ لبست سِوارَيْ كسرى» بشارة بأنّ سواري كسرى سيقعان بيد جيش المسلمين، فلمّا أتي بسواري كسرى في غنائم فتح فارس ألبسهما عُمَرُ بن الخطاب سُراقَةَ بن مالك تحقيقًا لمعجزة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن الثاني قوله تعالى: {فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه} [آل عمران: 25] وقد جمع الأمرين قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} [النساء: 41] الآية. اهـ.

.قال الفخر:

في تفسير الإحسان والتوفيق وجوه:
الأول: معناه ما أردنا بالتحاكم إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم إلا الإحسان إلى خصومنا واستدامة الاتفاق والائتلاف فيما بيننا، وإنما كان التحاكم إلى غير الرسول إحسانا إلى الخصوم لأنهم لو كانوا عند الرسول لما قدروا على رفع صوت عند تقرير كلامهم، ولما قدروا على التمرد من حكمه، فاذن كان التحاكم إلى غير الرسول إحسانا إلى الخصوم.
الثاني: أن يكون المعنى ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أنه يحسن إلى صاحبنا بالحكم العدل والتوفيق بينه وبين خصمه، وما خطر ببالنا أنه يحكم بما حكم به الرسول.
الثالث: أن يكون المعنى ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك يا رسول الله الا أنك لا تحكم الا بالحق المر، وغيرك يدور على التوسط ويأمر كل واحد من الخصمين بالإحسان إلى الآخر، وتقريب مراده من مراد صاحبه حتى يحصل بينهما الموافقة. اهـ.